لم يكن اليوم يوم سلام كما زُعم، بل كان يومًا مشحونًا بالأكاذيب من أوله إلى آخره.
لم تقتصر الأكاذيب على الخطابات التي أُلقيت تحت القباب المزخرفة في القدس أو شرم الشيخ، بل امتدت إلى الشاشات التي هللت، وإلى البيانات التي صيغت بعناية لتُخفي أكثر مما تُظهر. بدا المشهد وكأن العالم كله يتواطأ على تزوير الحقيقة:
الرئيس الأمريكي يتحدث عن «سلام تاريخي» فيما الدبابات لا تزال تئن فوق ركام غزة، وزعماء عرب يبتسمون أمام الكاميرات، فيما شعوبهم تبتلع الغصة في صمت.
كان يومًا يتجسد فيه الزيف السياسي في أبهى صوره، يومًا يُباع فيه الوهم بديباجة الأمل، وتُختم الأكاذيب بأختام رسمية على موائد المفاوضات.
إنه يوم تُقلب فيه المعاني رأسًا على عقب؛ تُبدَّل فيه الأدوار وتُزيَّف فيه اللغة، فيُقدَّم الوهم على أنه إنجاز، ويُروَّج لاستسلامٍ مُغلَّف بشعار السلام، ويُفرض الاحتلال كأنه قدر لا فكاك منه، ثم تُمنح له شرعية الوجود باسم الواقعية السياسية. في ذلك اليوم، الذي هلّل له الإعلام الغربي والعربي على السواء، بدا المشهد وكأن الحقيقة تُساق إلى المذبح تحت أضواء الكاميرات، ويُحتفى بالكذب كأنه فتحٌ جديد في تاريخ الشرق الأوسط.
جاء ترامب إلى المنطقة متقمصًا دور صانع السلام، لم يحمل في جعبته سوى خرائط جديدة للنفوذ وموازين القوة، وخطابات مصاغة بذكاء العلاقات العامة لا بحس التاريخ ولا بوعي المأساة. وقف في الكنيست يتحدث عن “سلام الشجعان” و“فرصة القرن”، بينما كانت غزة لا تزال تلعق جراحها، والقدس محاصرة بالحواجز، واللاجئون في المنافي يتجرعون خيبة الوعود ذاتها التي تكررت منذ أوسلو حتى اليوم. كان يتحدث عن شرقٍ جديدٍ يولد، لكنه لم يقل لأحد إنه شرقٌ يُعاد تشكيله على مقاس القوة الأمريكية والإسرائيلية معًا.
وفي شرم الشيخ، حيث اجتمع مضيفوه العرب تحت لافتة “السلام المستدام”، بدا كل شيء معدًّا بعناية: الكلمات محسوبة، الابتسامات مضبوطة، والبيانات الختامية مرصوصة كأنها نصوص جاهزة منذ أسابيع. لكن خلف الأضواء كان شيء آخر يتحرك ـ هو روح الهزيمة المقنّعة، والقبول بالأمر الواقع تحت مسمى "الواقعية السياسية".
لم يكن ذلك مؤتمراً للسلام، بل مهرجانًا لتكريس الوهم، وبيعًا جديدًا للأمل على موائد التسويات.
لم يكن حدثًا سياسيًا عابرًا، بل لحظة كاشفة في تاريخ الزيف الحديث؛ لحظة تماهى فيها تواطؤ الخطاب الإعلامي مع زيف الخطاب السياسي، وسقط فيها الفارق بين الدعاية والحقيقة، وبين السلام كقيمة إنسانية والاستسلام كخيارٍ سياسي تُمنح له شرعية زائفة تحت الأضواء.
------------------------------------------
بقلم: محمد حماد